تآكل الديمقراطية والوازع الأخلاقي في إسرائيل- شهادة شاهد من الداخل

المؤلف: حسن أوريد11.23.2025
تآكل الديمقراطية والوازع الأخلاقي في إسرائيل- شهادة شاهد من الداخل

عنوان هذا المقال مستوحى من كُتيب أُصدر في شهر سبتمبر من عام 2023، وذلك قبل أيام قليلة من عملية "طوفان الأقصى"، للصحفي الفرنسي شارل أندرلين، الخبير في الشؤون الإسرائيلية. عمل أندرلين مراسلًا للقناة الثانية الفرنسية في تل أبيب منذ عام 1981 حتى عام 2015، وله العديد من المؤلفات حول إسرائيل والصراع الفلسطيني الإسرائيلي.

إن شهادته قيمة، بل تتجاوز ذلك، فهو متعاطف مع إسرائيل، يظهر هذا التعاطف بشكل واضح، ومع ذلك لا يمكن اتهامه بالتحامل أو معاداة السامية، إلا أن تعاطفه هذا لا يفقده الموضوعية. يرى أندرلين أن الديمقراطية في إسرائيل ليست في خطر فحسب، بل إنها تلفظ أنفاسها الأخيرة.

جميعنا يعلم أن إسرائيل تتباهى أمام الغرب والعالم بأنها موطن اليهود الذين عانوا من أقسى أنواع التمييز والاضطهاد، وأنها الواحة الديمقراطية الفريدة في الشرق الأوسط.

ولكن، هل يحق لإسرائيل اليوم، وخاصة بعد الفظائع التي ارتكبتها ولا تزال ترتكبها في غزة، أن تستمر في التمسك برصيدها المعنوي الذي اكتسبته نتيجة لمظلمة المحرقة التي تعرضت لها في أوروبا؟

المبادئ غير قابلة للتجزئة أو الاختزال، وعند تطبيقها بشكل انتقائي، تضعف القدرة على الإقناع وتقوض المصداقية الأخلاقية.

هذا التساؤل يكتسب أهمية أخلاقية بالغة، فهل من المقبول أن يُعفى من تعرض لمظلمة من جميع الضوابط القانونية والأخلاقية، ليقوم بأبشع الانتهاكات ضد الآخرين، من قتل وتدمير وتهجير، دون أي محاسبة أو رادع؟ الأخلاق والقوانين ليست سلعة نختار منها ما يناسبنا وفقًا لأهوائنا أو مصالحنا الآنية، بل يجب الالتزام بها بشكل كامل.

الفيلسوف الفرنسي إيمانويل ليفناس، وهو مفكر يهودي ومن كبار الباحثين في النصوص الدينية التوراتية، والذي يستشهد به شارل أندرلين، سبق أن عبّر عن هذا المعنى عقب مجزرة صابرا وشاتيلا قائلًا: "الاستناد إلى الهولوكوست لتبرير أن الله معنا في كل الظروف لا يقل بشاعة عن النداء الذي كان يرفعه الجلادون Gott mit uns"، وهي عبارة عن نشيد حربي سويدي قديم يعني "الله معنا"، وكان يُستخدم كشعار في الحروب.

المبادئ غير قابلة للتجزئة أو الانتقائية، وعندما يتم التعامل معها بشكل انتقائي، فإنها تضعف قوة الإقناع وتقوض الرصيد الأخلاقي لمن يقوم بذلك.

أما فيما يتعلق بالطبيعة الديمقراطية لإسرائيل، فإنها محل شك في ظل التحول الذي تشهده البلاد مع الحكومة اليمينية الحالية. هذا التساؤل يحمل بعدًا معرفيًا، فالرصيد الديمقراطي لإسرائيل يتآكل تدريجيًا، أو كما يصفه المحلل الفرنسي أندرلين، يحتضر.

هذا التحول لا يعود فقط إلى الحكومة اليمينية بقيادة بنيامين نتنياهو، بل هو أعمق من ذلك، فهو هيكلي ويرتبط بخطيئة النشأة نفسها، كما يرى أندرلين. ويستشهد المحلل برأي حنة أرندت في كتابها عن الشمولية عام 1951، والتي اعتبرت أن حل القضية اليهودية من خلال إقامة دولة، خلق لعنة المهجرين ومنزوعي الحقوق، وأولئك الذين لا يملكون وطنًا. هذه لعنة ملازمة للولادات القسرية لأنها لا تستطيع أن تقوم على أساس المساواة، وبتعبير أقل تهذيبًا، هي "دولة فصل عنصري".

تعيش إسرائيل منذ نشأتها في حالة انفصام بين أيديولوجية علمانية تستخدم مرجعية دينية. كان الاعتقاد السائد أن هذا التناقض يمكن السيطرة عليه. الصهيونية الدينية ترى في العلمانيين حمارًا يحمل الرسالة، كما في إشارة توراتية، لكن "الحمار" لم يعد خاضعًا للسيطرة، لأنه يخضع للقوانين الدولية ويتبع أيديولوجية علمانية، وقد حان وقت مواجهة "الحمار". لم يعد هناك تطابق بين ما هو إسرائيلي ويهودي، ويمكن للإسرائيلي أن يهدد البعد اليهودي من "الجمهور المستنير" الذي يميز الإسرائيليين البعيدين عن القيم اليهودية.

هذا التوجه كان كامنًا، وتعود جذوره إلى تنظيرات الفاشي فلاديمير جابوتسكي في بداية القرن الماضي، ولكنه أصبح أكثر وضوحًا منذ عام 2009، وخاصة بعد خطاب أوباما في جامعة القاهرة ودعوته إلى إقامة دولة فلسطينية.

منذ ذلك الحين، اتخذت حكومة نتنياهو سلسلة من الإجراءات لكبح جماح "الحمار" وكل التوجهات الليبرالية، بما في ذلك القانون المسمى بقانون النكبة في عام 2011، والذي يمنع وزير المالية بموجبه من تمويل أي مؤسسة تسمح بتنظيم مظاهرة تخلد النكبة أو مأساة الفلسطينيين منذ عام 1948.

وتشمل الإجراءات أيضًا معاقبة من يدعون إلى المقاطعة، سواء كانت اقتصادية أو ثقافية، ومتابعتهم قضائيًا. وقد أقرت المحكمة العليا قرارًا يمس حرية التعبير والتصدي للاحتلال بطريقة غير عنيفة. أما الإجراء الثالث فهو الضغط على حكومات أوروبا التي تمول منظمات تعمل في مجال حقوق الإنسان.

في خضم هذا "الحراك"، ظهرت منظمة تحمل اسم "إم ترتسو" مستوحاة من عبارة هرتزل الشهيرة: "إذا أردتم، فستكون ليست حلمًا". ومؤسس هذا التنظيم هو طالب ذو توجهات قومية يدعى رونين شوفال، مهمته التصدي لكل الحركات الإسرائيلية التي تشكك في أحقية الشعب اليهودي في أرض فلسطين، ولا يتردد في ملاحقتهم بنوع من المكارثية.

ولكن العنصر الأهم لحماية الشعب اليهودي من الانحراف الذي تحمله الاتجاهات الليبرالية، هو موشي كوبيل، الذي يقول: "لا بد من ضمان مستقبل إسرائيل كدولة قومية للشعب اليهودي". وقد أنشأ لهذا الغرض منتدى كوهيليت للسياسات، وهي مؤسسة فكرية إسرائيلية يمينية محافظة غير ربحية، حددت لنفسها ثلاثة أهداف رئيسية:

  • تأمين مستقبل إسرائيل كدولة قومية للشعب اليهودي.
  • تعزيز الديمقراطية التمثيلية.
  • توسيع مبادئ الحرية الفردية والسوق الحرة في إسرائيل.

أحد أهم إنجازات المنتدى هو قيام الحقوقي أفياد باكشي بتحرير مشروع قانون "إسرائيل دولة قومية للشعب اليهودي"، أو القانون المعروف بقانون الهوية والذي تم تبنيه من قبل الكنيست في يوليو 2018.

وترى النظرة اليمينية أن هذا القانون أهم من إعلان "استقلال" إسرائيل، لأن الذين أعلنوا قيام إسرائيل من اليساريين كانوا متخاذلين.

يصف الباحث الفرنسي الحكومة التي يرأسها نتنياهو، منذ 28 ديسمبر 2022، بانقلاب هوياتي، على غرار انقلاب عسكري. يتمثل هذا الانزياح الهوياتي في إعطاء مناصب حكومية مرموقة لصهاينة متدينين، مثل بتسلئيل سموتريتش وإيتمار بن غفير وأوريت ستروك، وزيرة المستوطنات. ومن جهة أخرى، يتمثل في إنشاء "وزارات هوياتية"، ورصد ميزانيات ضخمة للمنظمات القومية والدينية، وأخيرًا إنشاء وكالة حكومية للهوية الوطنية اليهودية تابعة لرئاسة الحكومة، والتي أوكلت إلى متطرف هو آفي معوز، الذي جعل هدفه التصدي "للقوى المدنسة، والتي مصدرها المسيحية خاصة".

يقر شارل أندرلين بأن هذا الانقلاب الهوياتي يخفي داء عضال، وهو الاحتلال، وما يترتب عليه من فصل عنصري. والشعور الأخلاقي الذي كان يحفز بعضًا من العلمانيين واليسار، أو من يسميهم الخطاب الديني، بـ "الحمار الذي يحمل الرسول"، قد بدأ في التحلل.

أمام هذا الوضع المتنافر بين الحمار والرسول، أو الحمار الذي لم يعد يحمل الرسول، تفاقم شعور تحلل الوازع الأخلاقي، وهو ما تعزز في العقد الأخير، في إسرائيل، وداخل المؤسسات اليهودية وخارجها. ولا يتوقف هذا التوجه في إسرائيل ولا ضمن الجاليات اليهودية، بل يكتسب بعدًا تبشيريًا بما في ذلك أوروبا، على غرار الاتجاهات اليمينية المتطرفة التي يرتبط بها بعلاقات، وعلى رأس هذا الاتجاه يورام هازوني، في دائرة "الأممية الشعبوية اليمينية".

فمن يجرؤ بعد اليوم على الادعاء بأن إسرائيل دولة ديمقراطية وقد شهد شاهد لا يمكن الطعن في شهادته! ومن يتجرأ على التذرع بالبعد الأخلاقي، ليصطف مع إسرائيل وقد تخلت عن أي وازع أخلاقي، وذلك قبل العدوان الوحشي على غزة. أما اليوم فالوضع مختلف تمامًا.

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة